فصل: تفسير الآيات (36- 39):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (36- 39):

{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36) إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (37) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (38) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ (39)}
قال الزمخشري: ولقد أمد إبطال قدر السوء ومشيه الشر بأنه ما من أمة إلا وقد بعث فيهم رسولاً يأمرهم بالخير الذي هو الإيمان وعبادة الله واجتناب الشر الذي هو الطاغوت فمنهم من هدى الله أي لطف به، لأنه عرفه من أهل اللطف، ومنهم من حقت عليه الضلالة أي ثبت عليه الخذلان والشرك من اللطف، لأنه عرفه مصمماً على الكفر لا يأتي منه خير. فسيروا في الأرض فانظروا ما فعلت بالمكذبين حتى لا تبقى لكم شبهة وإني لا أقدر الشر ولا أشاؤه، حيث أفعل ما أفعل بالأشرار انتهى. وهو على طريقة الاعتزال. ولما قال: فهل على الرسل إلا البلاغ المبين، بيَّن ذلك هنا بأنه بعث الرسل بعبادته وتجنب عبادة غيره، فمنهم من اعتبر فهداه الله، ومنهم من أعرض وكفر، ثم أحالهم في معرفة ذلك على السير في الأرض واستقراء الأمم، والوقوف على عذاب الكافرين المكذبين، ثم خاطب نبيه وأعلمه أنّ من حتم عليه بالضلالة لا يجدي فيه الحرص على هدايته.
وقرأ النخعي: وإن بزيادة واو وهو والحسن، وأبو حيوة: تحرص بفتح الراء مضارع حرص بكسرها وهي لغة. وقرأ الجمهور بالكسر مضارع حرص بالفتح، وهي لغة الحجاز. وقرأ الحرميان، والعربيان، والحسن، والأعرج، ومجاهد، وشيبة، وشبل، ومزاحم الخراساني، والعطاردي، وابن سيرين: لا يهدي مبنياً للمفعول، ومن مفعول لم يسم فاعله. والفاعل في يضل ضمير الله والعائد على من محذوف تقديره: من يضله الله. وقرأ الكوفيون، وابن مسعود، وابن المسيب، وجماعة: يهدي مبنياً للفاعل. والظاهر أنّ في يهدي ضميراً يعود على الله، ومن مفعول، وعلى ما حكى الفراء أنّ هدى يأتي بمعنى اهتدى يكون لازماً، والفاعل من أي لا يهتدي من يضله الله. وقرأت فرقة منهم عبد الله: لا يهدي بفتح الياء وكسر الهاء والدال. كذا قال ابن عطية، ويعني: وتشديد الدال وأصله يهتدي، فأدغم كقولك في: يختصم يخصم. وقرأت فرقة: يهدي بضم الياء وكسر الدال، قال ابن عطية: وهي ضعيفة انتهى. وإذا ثبت أن هدى لازم بمعنى اهتدى لم تكن ضعيفة، لأنه أدخل على اللازم همزة التعدية، فالمعنى: لا يجعل مهتدياً من أضله، وفي مصحف أُبي: لا هادي لمن أضل. وقال الزمخشري: وفي قراءة أبيّ فإنّ الله لا هادي لمن يضل ولمن أضل. وقرئ: يضل بفتح الياء، وقال أيضاً: حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم على إيمان قريش، وعرفه أنهم من قسم من حقت عليه الضلالة، وأنه لا يهدي من يضل أي: لا يلطف بمن يخذل لأنه عبث، والله تعالى متعالٍ عن العبث، لأنه من قبيل القبائح التي لا تجوز عليه انتهى. وهو على طريقة الاعتزال.
والضمير في لهم عائد على معنى من، والضمير في وأقسموا عائد على كفار قريش. وعن أبي العالية: نزلت في رجل من المسلمين تقاضى ديناً على رجل من المشركين، فكان فيما تكلم به المسلم الذي ادخره بعد الموت فقال المشرك، وأنكر أنك تبعث بعد الموت، وأقسم بالله لا يبعث الله من يموت، بلى رد عليه ما نفاه، وأكده بالقسم، والتقدير: بلى يبعثه. وانتصب وعداً وحقاً على أنهما مصدران مؤكدان لما دل عليه بلى من تقدير المحذوف الذي هو يبعثه. وقال الحوفي: حقاً نعت لو عدا. وقرأ الضحاك: بلى وعد حق، والتقدير: بعثهم وعد عليه حق، وحق صفة لوعد. وقال الزمخشري: وأقسموا بالله معطوف على وقال الذين أشركوا، إيذاناً بأنهما كفرتان عظيمتان موصوفتان حقيقتان بأن تحكيا وتدوّنا، توريك ذنوبهم على مشيئة الله، وإنكارهم البعث مقسمين عليه، وبيّن أنّ الوفاء بهذا الموعد حق واجب عليه، ولكن أكثر الناس لا يعلمون أنهم يبعثون، أو أنه وعد واجب على الله لأنهم يقولون: لا يجب على الله شيء، لا ثواب عامل ولا غيره من مواجب الحكمة انتهى. وهو على طريقة الاعتزال. وأكثر الناس هم الكفار المكذبون بالبعث. وأما قول الشيعة: إن الإشارة بهذه الآية إنما هي لعليّ بن أبي طالب، وأن الله سيبعثه في الدنيا، فسخافة من القول. والقول بالرجعة باطل وافتراء على الله على عادتهم، رده ابن عباس وغيره. واللام في ليبين متعلقة بالفعل المقدر بعد بلى أي: نبعثهم ليبين لهم كما يقول الرجل: ما ضربت أحداً فيقول: بلى زيداً أي: ضربت زيداً. ويعود الضمير في يبعثهم المقدر، وفي لهم على معنى من في قوله: من يموت، وهو شامل للمؤمنين والكفار. والذي اختلفوا فيه هو الحق وأنهم كانوا كاذبين فيما اعتقدوا من جعل آلهة مع الله، وإنكار النبوّات، وإنكار البعث، وغير ذلك مما أمروا به. وبين لهم أنه دين الله فكذبوا به وكذبوا في نسبة أشياء إلى الله تعالى. وقال الزمخشري: إنهم كذبوا في قولهم: لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء، وفي قولهم: لا يبعث الله من يموت انتهى. وفي قولهم دسيسة الاعتزال. وقيل: تتعلق ليبين بقوله: ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً، أي: ليظهر لهم اختلافهم، وأنّ الكفار كانوا على ضلالة من قبل بعث ذلك الرسول، كاذبون في رد ما يجيء به الرسل.

.تفسير الآيات (40- 42):

{إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40) وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42)}
لما تقدّم إنكارهم البعث وأكدوا ذلك بالحلف بالله الذي أوجدهم، ورد عليهم تعالى بقوله: {بلى} وذكر حقية وعده بذلك، أوضح أنه تعالى متى تعلقت إرادته بوجود شيء أوجده. وقد أقروا بأنه تعالى خالق هذا العالم سمائة وأرضه، وأن إيجاده ذلك لم يوقف على سبق مادّة ولا آلة، فكما قدر على الإيجاد ابتداء وجب أن يكون قادراً على الإعادة. وتقدم تفسير قوله تعالى: كن فيكون في البقرة، فأغنى عن إعادته. والظاهر أن اللام في لشيء وفي له للتبليغ، كقولك: قلت لزيد قم. وقال الزجاج: هي لام السبب أي: لأجل إيجاد شيء، وكذلك له أي لأجله. قال ابن عطية: وما في ألفاظ هذه الآية من معنى الاستقبال والاستئناف إنما هو راجع إلى المراد، لا إلى الإرادة. وذلك أنّ الأشياء المرادة المكونة في وجودها استئناف واستقبال، لا في إرادة ذلك، ولا في الأمر به، لأن ذينك قديمان. فمن أجل المراد عبر بإذا، ونقول: وأما قوله لشيء فيحتمل وجهين: أحدهما: أنه لما كان وجوده حتماً جاز أن يسمى شيئاً وهو في حالة عدم. والثاني: أن قوله لشيء تنبيه على الأمثلة التي ينظر فيها، وأنّ ما كان منها موجوداً كان مراداً، وقيل له: كن فكان، فصار مثالاً لما يتأخر من الأمور بما تقدّم، وفي هذا مخلص من تسمية المعدوم شيئاً انتهى. وفيه بعض تلخيص. وقال: إذا أردناه منزل منزلة مراد، ولكنه أتى بهذه الألفاظ المستأنفة بحسب أنّ الموجودات تجيء وتظهر شيئاً بعد شيء، فكأنه قال: إذا ظهر المراد فيه. وعلى هذا الوجه يخرج قوله: {فسيرى الله عملكم} وقوله: {ليعلم الذين آمنو منكم} ونحو هذا معناه يقع منكم ما أراد الله تعالى في الأزل وعلمه، وقوله: أن نقول، ينزل منزلة المصدر كأنه قال قولنا، ولكن أن مع الفعل تعطى استئنافاً ليس في الصدر في أغلب أمرها، وقد تجيء في مواضع لا يلحظ فيها الزمن كهذه الآية. وكقوله تعالى: {ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره} وغير ذلك انتهى. وقوله: ولكنْ أنّ مع الفعل يعني المضارع، وقوله: في أغلب أمرها ليس بجيد، بل تدل على المستقبل في جميع أمورها. وأما قوله: وقد تجيء إلى آخره، فلم يفهم ذلك من دلالة أنْ، وإنما ذلك من نسبة قيام السماء والأرض بأمر الله، لأنّ هذا لا يختص بالمستقبل دون الماضي في حقه تعالى. ونظيره {إن الله كان على كل شيء قديراً} فكان تدل على اقتران مضمون الجملة بالزمن الماضي، وهو تعالى متصف بهذا الوصف ماضياً وحالاً ومستقبلاً، وتقييد الفعل بالزمن لا يدل على نفيه عن غير ذلك الزمن. والذين هاجروا قال قتادة: نزلت في مهاجري أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم.
وقال داود بن أبي هند: في أبي جندل بن سهيل بن عمرو. وعن ابن عباس: في صهيب، وبلال، وخباب بن الأرت، وأضرابهم عذبهم المشركون بمكة، فبوأهم الله المدينة. وعلى هذا الاختلاف في السبب يتنزل المراد بقوله: والذين هاجروا. قال ابن عطية: لما ذكر الله كفار مكة الذين أقسموا بأنّ الله لا يبعث من يموت، ورد على قولهم ذكر مؤمني مكة المعاصرين لهم، وهم الذين هاجروا إلى أرض الحبشة، هذا قول الجمهور وهو الصحيح في سبب الآية، لأنّ هجرة المدينة ما كانت إلا بعد وقت نزول الآية انتهى. والذين هاجروا، عموم في المهاجرين كائناً ما كانوا، فيشمل أولهم وآخرهم. وقرأ الجمهور: لنبوأنهم، والظاهر انتصاب حسنة على أنه نعت لمصدر محذوف يدل عليه الفعل أي: تبوئة حسنة. وقيل: انتصاب حسنة على المصدر على غير الصدر، لأنّ معنى لنبوأنهم في الدنيا لنحسنن إليهم، فحسنة في معنى إحساناً. وقال أبو البقاء: حسنة مفعول ثان لنبوأنهم، لأنّ معناه لنعطينهم، ويجوز أن يكون صفة لمحذوف أي: دار حسنة انتهى. وقال الحسن، والشعبي، وقتادة: داراً حسنة وهي المدينة. وقيل: التقدير منزلة حسنة، وهي الغلبة على أهل مكة الذين ظلموا، وعلى العرب قاطبة، وعلى أهل المشرق والمغرب. وقال مجاهد: الرزق الحسن. وقال الضحاك: النصر على عدوهم. وقيل: ما استولوا عليه من فتوح البلاد وصار لهم فيها من الولايات. وقيل: ما بقي لهم فيها من الثناء، وما صار فيها لأولادهم من الشرف. وقيل: الحسنة كل شيء مستحسن ناله المهاجرون. وقرأ عليّ، وعبد الله، ونعيم بن ميسرة، والربيع بن خيثم: لنثوينهم بالثاء المثلثة، مضارع أثوى المنقول بهمزة التعدية من ثوى بالمكان أقام فيه، وانتصب حسنة على تقدير إثواة حسنة، أو على نزع الخافض أي: في حسنة، أي: دار حسنة، أو منزلة حسنة. ودل هذا الإخبار بالمؤكد بالقسم على عظيم محل الهجرة، لأنه بسببها ظهرت قوة الإسلام كما أنّ بنصرة الأنصار قويت شوكته. وفي الله دليل على إخلاص العمل لله، ومن هاجر لغير الله هجرته لما هاجر إليه. وفي الإخبار عن الذين بجملة القسم المحذوفة الدال عليها الجملة المقسم عليها دليل على صحة وقوع الجملة القسمية خبراً للمبتدأ، خلافاً لثعلب. وأجاز أبو البقاء أن يكون الذين منصوباً بفعل محذوف يدل عليه لنبوأنهم، وهو لا يجوز لأنه لا يفسر إلا ما يجوز له أن يعمل. ولا يجوز زيداً لأضربن، فلا يجوز زيداً لأضربنه. وعن عمر رضي الله عنه: أنه كان إذا أعطى رجلاً من المهاجرين عطاءه قال: خذ بارك الله لك فيه، هذا ما وعدك في الدنيا وما ادخر لك في الآخرة أكثر، ولأجر الآخرة أي: ولأجر الدار الآخرة أكبر، أي: أكبر أنْ يعلمه أحد قبل مشاهدته كما قال: وإذا رأيت ثم رأيت نعيماً وملكاً كبيراً. والضمير في يعلمون عائد على الكفار أي: لو كانوا يعلمون أن الله يجمع لهؤلاء المستضعفين في أيديهم الدنيا والآخرة لرغبوا في دينهم. وقيل: يعود على المؤمنين أي لو كانوا يعلمون ذلك لزادوا في اجتهادهم وصبرهم، والذين صبروا على تقديرهم الذين، أو أعني الذين صبروا على العذاب، وعلى مفارقة الوطن، لاسيما حرم الله المحبوب لكل قلب مؤمن، فكيف لمن كان مسقط رأسه؟ وعلى بذل الروح في ذات الله، واحتمال الغربة في دار لم ينشأ بها، وناس لم يألفهم أجانب حتى في النسب.

.تفسير الآيات (43- 47):

{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44) أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (47)}
خسف المكان يخسف خسوفاً ذهب، وخسفه الله يريد أذهبه في الأرض به.
{وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم فاسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون بالبينات والزبر وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون أفأمن الذين مكروا السيئات أن يخسف الله بهم الأرض أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون أو يأخذهم في تقلبهم فما هم بمعجزين أو يأخذهم على تخوف فإن ربكم لرءُوف رحيم}: نزلت في مشركي مكة أنكروا نبوة الرسول عليه الصلاة والسلام وقالوا: الله أعظم أن يكون رسوله بشراً، فهلا بعث إلينا ملكاً؟ وتقدّم تفسير هذه الجملة في آخر يوسف، والمعنى: نوحي إليهم على ألسنة الملائكة. وقرأ الجمهور: يوحى بالياء وفتح الحاء، وقرأت فرقة: بالياء وكسرها وعبد الله، والسلمي، وطلحة، وحفص: بالنون وكسرها. وأهل الذكر: اليهود، والنصارى، قاله: ابن عباس، ومجاهد، والحسن. وعن مجاهد أيضاً: اليهود. والذكر: التوراة لقوله تعالى: {ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر} وعن عبد الله بن سلام، وسلمان. وقال الأعمش، وابن عيينة: من أسلم من اليهود والنصارى. وقال الزجاج: عام فيمن يعزى إليه علم. وقال أبو جعفر وابن زيد: أهل القرآن. ويضعف هذا القول وقول من قال: من أسلم من الفريقين، لأنه لا حجة على الكفار في إخبار المؤمنين، لأنهم مكذبون لهم. قال ابن عطية: والأظهر أنهم اليهود والنصارى الذين لم يسلموا، وهم في هذه الآية النازلة، إنما يخبرون من الرسل عن البشر، وإخبارهم حجة على هؤلاء، فإنهم لم يزالوا مصدقين لهم، ولا يتهمون بشهادة لهم لنا، لأنهم مدافعون في صدر ملة محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا هو كسر حجتهم ومذهبهم، لا أنا افتقرنا إلى شهادة هؤلاء، بل الحق واضح في نفسه. وقد أرسلت قريش إلى يهود يثرب يسألونهم ويسدون إليهم انتهى. والأجود أن يتعلق قوله: بالبينات، بمضمر يدل عليه ما قبله كأنه قيل: ثم أرسلوا؟ قال: أرسلناهم بالبينات والزبر، فيكون على كلامين، وقاله: الزمخشري وابن عطية وغيرهما. وقد يتعلق بقوله: وما أرسلنا، وهذا فيه وجهان: أحدهما: أنّ النية فيه التقديم قبل أداة الاستثناء، والتقدير: وما أرسلنا من قبلك بالبينات والزبر إلا رجالاً حتى لا يكون ما بعد إلا معمولين متأخرين لفظاً ورتبة، داخلين تحت الحصر لما قبلها، وهذا حكاه ابن عطية عن فرقة. والوجه الثاني: أنْ لا ينوي به التقديم، بل وقعا بعد إلا في نية الحصر، وهذا قاله الحوفي والزمخشري، وبدأ به قال: تتعلق بما أرسلنا داخلاً تحت حكم الاستثناء مع رجالاً أي: وما أرسلنا إلا رجالاً بالبينات، كقولك: ما ضربت إلا زيداً بالسوط، لأن أصله ضربت زيداً بالسوط انتهى.
وقال أبو البقاء: وفيه ضعف، لأنّ ما قبل إلا لا يعمل فيما بعدها إذا تم الكلام على إلا وما يليها، إلا أنه قد جاء في الشعر. قال الشاعر:
ليتهم عذبوا بالنار جارهم ** ولا يعذب إلا الله بالنار

انتهى. وهذا الذي أجازه الحوفي والزمخشري لا يجوز على مذهب جمهور البصريين، لأنهم لا يجيزون أن يقع بعد إلا، إلا مستثنى، أو مستثنى منه، أو تابعاً، وما ظن من غير الثلاثة معمولاً لما قبل إلاّ قدر له عامل. وأجاز الكسائي أن تقع معمولاً لما قبلها منصوب نحو: ما ضرب إلا زيد عمراً، ومخفوض نحو: ما مرّ إلا زيد بعمرو، ومرفوع نحو: ما ضرب إلا زيداً عمرو. ووافقه ابن الأنباري في الموفوع، والأخفش في الظرف والجار والحال. فالقول الذي قاله الحوفي والزمخشري يتمشى على مذهب الكسائي والأخفش، ودلائل هذه المذاهب مذكورة في علم النحو. وأجاز الزمخشري أن يكون صفة لرجال أي: رجالاً ملتبسين بالبينات فيتعلق بمحذوف، وهذا وجه سائغ، لأنه في موضع صفة لما بعد: إلا، فوصف رجالاً بيوحى إليهم، وبذلك العامل في بالبينات كما تقول: ما أكرمت إلا رجلاً مسلماً ملتبساً بالخير. وأجاز أيضاً أن يتعلق بيوحى إليهم، وأن يتعلق بلا يعلمون. قال: على أنّ الشرط في معنى التبكيت والإلزام كقول الأجير: إن كنت علمت لك فاعطني حقي، وقوله: فاسألوا أهل الذكر، اعتراض على الوجوه المتقدمة يعني: من التي ذكر غير الوجه الأخير. وأنزلنا إليك الذكر: هو القرآن، وقيل له ذكر لأنه موعظة وتبيه للغافلين. وقيل: الذكر العلم ما نزل إليهم من المشكل والمتشابه، لأن النص والظاهر لا يحتاجان إلى بيان. وقال الزمخشري: مما أمروا به ونهوا عنه، ووعدوا وأوعدوا. وقال ابن عطية: لتبين بسردك بنص القرآن ما نزل إليهم. ويحتمل أن يريد لتبين بتفسيرك المجمل وشرحك ما أشكل، فيدخل في هذا ما تبينه السنة من أمر الشريعة، وهذا قول مجاهد انتهى. ولعلهم يتفكرون أي: وإرادة أن يصغوا إلى تنبيهاته فيتنبهوا ويتأملوا، والسيئات نعت لمصدر محذوف أي: المكرات السيئات قاله الزمخشري، أو مفعول يمكروا على تضمين مكروا معنى فعلوا وعملوا، والسيئات على هذا معاصي الكفر وغيره قاله قتادة، أو مفعول بأمن ويعني به العقوبات التي تسوءهم ذكرهما ابن عطية. وعلى هذا الأخير يكون أن يخسف بدلاً من السيئات. وعلى القولين، قبله مفعول بامن، والذين مكروا في قول الأكثرين هم أهل مكة مكروا بالرسول صلى الله عليه وسلم. وقال مجاهد: هو نمرود، والخسف بلع الأرض المخسوف به وقعودها به إلى أسفل. وذكر النقاش أنه وقع الخسف في هذه الأمة بهم الأرض كما فعل بقارون، وذكر لنا أنّ أخلاطاً من بلاد الروم خسف بها، وحين أحسن أهلها بذلك فرّ أكثرهم، وأن بعض التجار ممن كان يرد إليها رأى ذلك من بعيد فرجع بتجارته.
من حيث لا يشعرون: من الجهة التي لا شعور لهم بمجيء العذاب منها، كما فعل بقوم لوط في تقلبهم في أسفارهم قاله قتادة، أو في منامهم روي هذا وما قبله عن ابن عباس. وقال الضحاك، وابن جريج، ومقاتل: في ليلهم ونهارهم أي: حالة ذهابهم ومجيئهم فيهما. وقيل: في تقلبهم في مكرهم وحيلهم، فيأخذهم قبل تمام ذلك. وقال الزجاج: جميع ما يتقلبون فيه، فما هم بسابقين الله ولا فائتيه. والأخذ هنا الإهلاك كقوله: {فكلاًّ أخذنا بذنبه} وعلى تخوف على تنقص قاله: ابن عباس، ومجاهد، والضحاك. وقال ابن قتيبة: يقال خوفته وتخوفته إذا تنقصته وأخذت من ماله وجسمه. وقال الهيثم بن عدي: هو النقص بلغة أزدشنوءة. وفي حديث لعمر أنه سأل عن التخوف، فأجابه شيخ: بأنه التنقص في لغة هذيل. وأنشده قول أبي كثير الهذلي:
تخوف الرجل منها تامكاً قرداً ** كما تخوف عود النبعة السقر

وهذا التخوف بمعنى التنقص، قيل: من أعماله، وقيل: يأخذ واحداً بعد واحد، ورويا عن ابن عباس. وقال الزجاج: ينقص ثمارهم وأموالهم حتى يهلكهم. وقيل: على تخوف، على خوف أن يعاقبهم أو يتجاوز عنهم قاله قتادة. وقال الزمخشري: على تخوف متخوفين، وهو أن يهلك قوماً قبلهم فيتخوفوا، فيأخذهم بالعذاب وهم متخوفون متوقعون، وهو خلاف قوله: من حيث لا يشعرون انتهى. وقاله الضحاك، يأخذ قرية فتخاف القرية الأخرى. وقال ابن بحر: على تخوف ضد البغتة أي: على حدوث حالات يخاف منها كالرياح والزلازل والصواعق، ولهذا ختم بقوله تعالى: إن ربكم لرؤوف رحيم، لأنّ في ذلك مهلة وامتداد وقت، فيمكن فيه التلافي. وقال الليث بن سعد: على تخوف على عجل. وقيل: على تقريع بما قدّموه، وهذا مروي عن ابن عباس. ولما كان تعالى قادراً على هذه الأمور ولم يعاجلهم بها ناسب وصفه بالرأفة والرحمة.